الأسرار الخفية في جدة التاريخية.
تعد جدة التاريخية، أو ما يُعرف بـ"البلد"، من أبرز المناطق التراثية في المملكة العربية السعودية، وقد لعبت دورًا مهمًا في التاريخ الاجتماعي والديني والتجاري للمنطقة. تأسست قبل أكثر من 1400 عام، وكانت بوابة رئيسية للحجاج القادمين إلى مكة عبر البحر الأحمر، ومركزًا تجاريًا مزدهرًا ارتبط بالعديد من الثقافات.
في عام 2014، أدرجت جدة التاريخية في قائمة التراث
العالمي لليونسكو، مما لفت الانتباه العالمي إلى معمارها التقليدي وأحيائها الضيقة
وأسواقها الشعبية. لكن وراء هذه المظاهر المادية، تختبئ أسرار كثيرة تشكل جوهر
الحياة اليومية والثقافية في هذه المدينة.
العمارة
التقليدية كمرآة ثقافية
الروشان ودوره المزدوج
الروشان هو عنصر معماري بارز في مباني جدة التاريخية.
يتمثل في شباك خشبي بارز يزين واجهات المنازل. وظيفته ليست فقط السماح بمرور
الهواء والضوء، بل أيضًا تأمين الخصوصية للساكنين. وقد تطورت هذه الروشانات من
الناحية الجمالية لتصبح وسيلة للتعبير الفني من خلال الزخارف والنقوش المعقدة التي
كانت تدل أحيانًا على مستوى الأسرة الاجتماعي أو أصلها.
الأبواب والنقوش كرموز معنوية
الكثير من الأبواب في جدة التاريخية تحمل زخارف خشبية
دقيقة وأحيانًا رموزًا هندسية أو دينية. بعض الباحثين يرون أن هذه الرموز ليست
مجرد زخرفة، بل تحمل دلالات روحية أو وقائية، مثل الحماية من الحسد أو الطاقة
السلبية. مما يعكس جانبًا من المعتقدات الشعبية المرتبطة بالمنزل والهوية.
الحارات القديمة وأبعادها الاجتماعية
تعدد الحارات وتنوعها
الثقافي
جدة التاريخية كانت مقسمة إلى عدة حارات، مثل حارة الشام،
حارة المظلوم، حارة اليمن، وغيرها. كل حارة كانت تسكنها عائلات معينة، وأحيانًا
تعكس الحارات أصول السكان، مما يدل على التنوع الثقافي في المدينة نتيجة التبادل
التجاري والحج.
العلاقات الاجتماعية
القوية
كانت الحياة في جدة القديمة تقوم على مفهوم
"الجيرة"، حيث كانت العلاقات بين السكان تقوم على التراحم والتكافل.
يتشارك الجيران الأفراح والأحزان، ويتعاونون في مختلف الأمور اليومية. هذا النظام
الاجتماعي المتين جعل من الحارة وحدة متكاملة يتقاسم فيها الجميع المسؤولية.
الأسواق الشعبية ومظاهر الحياة اليومية
الأسواق كمساحات اجتماعية
لم تكن الأسواق في جدة مجرد أماكن للبيع والشراء، بل كانت
مساحات للتلاقي والتفاعل اليومي بين الناس. كانت تضم محلات تقليدية وورشًا صغيرة
يديرها الحرفيون، مثل صناع المجوهرات، والنجارين، وبائعي العطارة، وغيرهم.
البيع بالثقة
من السمات البارزة في أسواق جدة القديمة أن كثيرًا من
عمليات البيع كانت تعتمد على الثقة المتبادلة بين التاجر والزبون. لم تكن هناك
عقود مكتوبة، بل كان "كلمة التاجر" تكفي لضمان الالتزام، مما يعكس مستوى
عالٍ من القيم الأخلاقية في التعامل التجاري.
المعتقدات الشعبية والممارسات الروحية
رغم الطابع الديني المحافظ، فإن المجتمع في جدة القديمة
كان يتبنى بعض المعتقدات والممارسات الروحية ذات الجذور الشعبية.
جلسات الزار والرقية
في بعض المنازل، كانت تُقام جلسات تُعرف
بـ"الزار"، وهي طقوس يُعتقد أنها تطرد الأرواح الشريرة. كما كانت الرقية
تُستخدم لعلاج بعض الأمراض النفسية أو الروحية. هذه الممارسات لم تكن جزءًا من
الإسلام الرسمي، لكنها تعكس بعدًا ثقافيًا شعبيًا عميق الجذور.
استخدام الأحجبة والتمائم
كان بعض الأهالي يضعون "حجابات" أو أوراقًا
مكتوبة بآيات أو رموز، تُوضع في أركان المنزل أو مع الأطفال كنوع من الحماية. على
الرغم من بساطة هذه الممارسات، فإنها تعكس تصورًا شعبيًا للعالم، يجمع بين الدين
والتقاليد والموروثات القديمة.
المساجد ودورها المجتمعي
المسجد كمركز ثقافي
واجتماعي
إلى جانب دوره الديني، كان المسجد في جدة القديمة يمثل
مركزًا للتعليم والتوجيه. فمثلًا، مسجد الشافعي، أحد أقدم المساجد في المدينة، كان
يُستخدم كمكان لتعليم الأطفال القرآن (الكتاتيب)، ولحل النزاعات بين السكان.
المساجد والمعمار
تتميز المساجد في جدة بطراز معماري بسيط يتوافق مع البيئة
الحارة، حيث تستخدم المواد المحلية كالطين والخشب، وتتميز بمآذن قصيرة وشرفات
تهوية. هذا يعكس اندماج العمارة مع المناخ المحلي وحاجة المجتمع.
البحر كمصدر رزق وثقافة
مهن الغوص والصيد
اعتمد الكثير من سكان جدة على البحر كمصدر للرزق، من خلال
الغوص لصيد اللؤلؤ أو صيد الأسماك. وكانت هذه المهن مليئة بالمخاطر، مما أدى إلى
ظهور طقوس خاصة يعتقد أنها تجلب الحظ وتحمي من الغرق، مثل تلاوة أدعية معينة أو
ارتداء خرزات زرقاء.
الحكايات البحرية
انتشرت بين الصيادين روايات عن "أماكن مسكونة"
في البحر أو ظهور مخلوقات غريبة. قد لا تكون هذه القصص حقيقية، لكنها جزء من
الثقافة الشفوية التي تعكس علاقة الناس بالبحر وما يحمله من رهبة وغموض.
التراث
اللامادي والجهود الحديثة للحفاظ عليه
الحرف التقليدية والفنون الشعبية
من بين المظاهر التراثية غير المادية في جدة: فنون
التطريز، وصناعة السلال، والمأكولات الشعبية مثل "المنتو"
و"الفول"، التي تمثل هوية المدينة. كانت هذه الحرف تُمارَس داخل البيوت
أو في الأسواق الصغيرة، وكانت تُنقل شفويًا من جيل لآخر.
التوثيق الرقمي والسياحة الثقافية
في السنوات الأخيرة، ظهرت مبادرات حكومية ومجتمعية تهدف
إلى توثيق التراث اللامادي لجدة التاريخية من خلال تسجيل الروايات الشفوية، وإقامة
المهرجانات، وتحويل بعض المنازل التاريخية إلى متاحف أو مقاهٍ تقليدية. كما تم
إطلاق مشاريع رقمية لجمع الصور والوثائق التاريخية.
و في الختام، جدة التاريخية ليست مجرد مجموعة من الأبنية
القديمة والأسواق التقليدية، بل هي مدينة تختزن في جدرانها وأزقتها ومنازلها قصصًا
غير مكتوبة، تشكل ذاكرة شعب وهوية مجتمع. إن فهم هذه "الأسرار الخفية"
يساعد في إدراك مدى غنى التراث السعودي، ويدفع باتجاه حفظه وتوثيقه للأجيال
القادمة.
ولعلّ أهم ما يميز هذا التراث أنه لم يُصنع في يوم، بل
تشكّل على مدى قرون بفعل التفاعل بين الإنسان والمكان، بين الثقافة والمعتقد، وبين
الحكاية والحقيقة.
تعليقات
إرسال تعليق